بتصرف من البحث الجامع الشامل لكل اداب و احكام التجارة الالكترونية للشيخ الدكتور محمد منصور ربيع المدخلي حفضه الله تحت عنوان "أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي"
يُعدُّ البيع الإلكتروني في التجارة الإلكترونية سمة قوية في العرف التجاري العالمي المعاصر؛ لاحتوائه على السرعة والقوة والإنجاز والربحية وفق أطر وعلاقات برمجية ظهرت في أقراص ممغنطة ذات تخزين عال وسيطرت عليها لغة التجمع الرمزي والدوائر الإلكترونية المطورة في أجيال صناعية وتقدم اقتصادي يخدم المعاملات التجارية المعاصرة.
وتُعدُّ التجارة من وسائل البيع المشروعة في الإسلام، فقد "أجمع العلماء على أن العلم منه: ما هو فرض متعين، ومنه: ما هو فرض على الكفاية.. والنوع الثاني: ما كان فرضاً لازماً؛ ولكن وجوبه متوقف على تحقق شرط، مثل العلم بأحكام الزكاة، وهكذا أحكام المعاملات والمبايعات والمداينات والشركات وهكذا من باشر البيع والشراء، وذلك يحصل بسؤال أهل العلم العارفين بأحكام الشراء جملة وتفصيلا. قال تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). وقوله تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) عقب آية الدين "لينبّه على أن من تعاطى الدين والبيع والتجارة فإنه يجب عليه أن يتقي الله ويتعلّم من أحكامها ما يمنعه ويحجره عن ظلم العباد وأكل الحرام". "وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء... فالنفوس مجبولة على القيام بها.. فهي -إذن- من فروض الكفاية".
والبيع التجاري الإلكتروني له صور عديدة إما أن يختار السلعة على الموقع الإلكتروني المعروف وبعد الموافقة يدفع ثمنها وتشحن السلعة للمشتري، وتحميلها على جهاز المشتري، أو تكون على طريقة التوقيع الإلكتروني بواسطة بطاقة الائتمان التجاري، وسحب المبلغ من حساب المشتري بواسطة التاجر (الوسيط) بين البائع والمشتري، وأخذ عمولة على ذلك، أو عن طريق الإعلان التجاري للسلعة والاتصال على صاحب السلعة المعلن عنها وغير ذلك.
والتكييف الفقهي لهذا النوع من البيوع المعبّر عنه بالبيع التجاري الإلكتروني، فإنه ومن خلال التقعيد الفقهي لهذه النازلة والاستقراء الفقهي لها، تبيّن جواز ذلك، ومما يفهم في تصوّر لعقد البيع الإلكتروني لما ورد عن ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ما نصه "إن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حداً، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من أصحابه والتابعين أنّه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك، من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع، وليس لذلك حد في لغة العرب، بحيث يقال: إن أهل اللغة يسمون هذا بيعاً؛ حتى يدخل أحدهما في خطاب الله، ولا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً، والأصل بقاء اللغة وتقريرها، لا ننقلها ولا نغيرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجح فيه إلى عرف الناس وعادتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة"..
والعادات ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر.. والعقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع".
ومما يدل على ذلك: أن العقود التجارية الحاصلة في التجارة الإلكترونية جائزة؛ لأنها من هذا الباب حسب فقه ابن تيمية رحمه الله.
وعن "العقود التجارية الجديدة نجد أن الشريعة الإسلامية لم تحصر التعاقد في موضوعات معينة، ولم يوجد هناك نص في الشريعة يحدد أنواع العقود، ولهذا نرى إمكان استيعاب الفقه الإسلامي لهذه العقود، وخاصة المذهب الحنبلي الذي هو أكثر المذاهب توسعاً في الاعتماد على الشروط".
ولقد تناول الفقهاء -أيضاً- اللفظ المعبّر بأي وسيلة كانت، فاللفظ كما يقول الشاطبي: "إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى المقصود". والإيجاب تعبير صادق -عند الحنفية- يثبت به خيارات البيوع، ويُقرر الشافعية العقد بالوسائل الحديثة، سواء الهاتف أو الإنترنت أو الفاكس في ضوء الفقه لديهم. وقالوا: "لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف"، وهو ظاهر في وسيلة البيع الإلكتروني.
ومثله: ما جاء في الفقه الحنفي حول هذه المسألة، وانعقاد العقود التجارية بالأسباب الشرعية، من غير نظر إلى تحديد نوعيتها، سواء الوكيل أو السمسار أو العاقد نفسه، فقد جاء عنهم: "إذا قال الرجل: اذهب بثوبي هذا إلى فلان حتى يبيعه أو اذهب إلى فلان حتى يبيعك ثوبي الذي عنده فهو جائز"، "ولو قال: بعتكه بكذا، بعد وجود مقدمات البيع فقال: اشتريت ولم يقل: منك، صح. وكذا العكس"، "وكذا النطق ليس بشرط لانعقاد البيع والشراء.. لأنه إذا كانت الإشارة مفهومة في ذلك فإنها تقوم مقام عبارته"، وهي رسائل معبّرة، وكذلك البيع الإلكتروني.
وفي الفقه المالكي: "الفرق بين قاعدة الأسباب العقلية والأسباب الشرعية -نحو بعت واشتريت- يثبت سبب هذا القسم مع آخر حرف منه؛ تشبيهاً للأسباب الشرعية بالعلل العقلية؛ لأن العلل العقلية لا توجب معلولها إلا حالة وجودها، فكذلك الأسباب الشرعية"، إذن الأسباب العلمية المعاصرة كالإنترنت والهاتف والحاسوب: أسباب تنفيذية، تعقد بسببها العقود التجارية، ولا فرق عند تحقق موجبات البيع الشرعي.
ومما يزيد الأمر سعة في الفقه الإسلامي: ما جاء في الفقه الشافعي "إذا قال السمسار المتوسط بينهما للبائع: بعت بكذا؟ فقال: بعت. وقال للمشتري: اشتريت بكذا؟ فقال: اشتريت. فوجهان حكاهما الرافعي، أصحهما -عند الرافعي وغيره- الانعقاد، لوجود الصيغة والتراضي، والثاني: لا ينعقد لعدم تخاطبهما".
وفي صورة أخرى لانعقاد التجارة في البيوع بالأسباب: ما جاء عن "بعض الأصحاب -تعريفاً على صحة البيع بالمكاتبة- لو قال: بعت داري لفلان وهو غائب فلما بلغه الخبر، قال: قبلت. انعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتب".
وفي الفقه الحنبلي: "قاعدة في بيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب مع المعاملات "للأسباب مع أحكامها أحوال... وأما ما يفتقر إلى الجواب فمثله مثل المعاوضات... فإذا قال: بعتك هذه الدار بألف اقترنت صحة البيع بالتاء معه قوله: قبلت، على الأصح.. وأما ما يتعجل أحكامه ويتأخر عنه بعض أحكامه فله أمثلة: أحدها البيع، ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه إلى الإجازة والافتراق وانقضاء خيار الشرط".
وبهذا يظهر أن التكييف الفقهي لعقد البيع الإلكتروني على وجه عقد البيع بواسطة السمسرة جائز، بشروط البيع التجاري وأركان الإيجاب والقبول، وثبوت الخيارات في البيوع وانعقاد العمل التجاري بدون نظر إلى الأسباب الموجبة له، ما دام هناك قرائن ومسببات توجب انعقاده، مع وجود الرضائية والاختيار والعين المباحة في سلع البيوع المتعددة.
ومما ينبغي الحرص عليه: أن العقود بالوسائل المبيحة مبيحة للطرفين فيما لم يشترط فيها القبض الفوري، أما إذا بيع ربوي بمثله فلا يصح العقد بها إلا إذا تم القبض، بأن يكون لهما وكيل بالتسليم عند الآخر، أو عن طريق أحد البنوك، ولكل منهما رصيد، وغيرها مما هو من متعلقات القبض، بدليل إجماع العلماء على ذلك؛ مستندين على الأحاديث، ومنها: الحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فإذا اختلفت هذه الأوصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد".
فدل على اشتراط القبض الفوري في تلك الأصناف والابتعاد عن العقود التي فيها شبهة الحرام، سواء عن طريق الشركات أو وسائل الاتصال المعاصرة، وعدم حل أرباحها أو التعامل معها لأن الغالب عليها المقامرة والتدليس والغش.
0 التعليقات :
إرسال تعليق